المجازر الإسرائيلية - مذبحة قانا


مذبحة قانا | فلسطيننا

في 18 أبريل 1996؛ وقعت مذبحة قانا، وهي جزء من عملية كبيرة سُميَّت «عملية عناقيد الغضب» التي بدأت في يوم 11 من الشهر نفسه، واستمرت حتى 27 منه حين تم وقف إطلاق النار.  وتُعَد هذه العملية الرابعة من نوعها للجيش الإسرائيلي تجاه لبنان بعد اجتياح 1978 وغزو 1982، واجتياح 1993، واستهدفت 159 بلدة وقرية في الجنوب والبقاع الغربي.

 كانت هذه العملية تستهدف ثلاثة أهداف أساسية غير تلك التي أعلنها القادة والزعماء الرسميون والإعلاميون في إسرائيل: الحد من عملية تآكل هيبة الجيش الإسرائيلي، ومحاولة نزع سلاح حزب الله أو على الأقل تحجيمه، وتقييد نشاطه من خلال الضغط إلى الدرجة القصوى على القيادتين اللبنانية والسورية لتحقيق هذا الهدف، ورفع معنويات عملاء إسرائيل في جيش لبنان الجنوبي الموالي للكيان الصهيوني الذي يعيش جنده وقادته حالة رعب وقلق وارتباك وخوف على المصير المتوقع بعد الوصول لتسوية نهائية للوضع في لبنان.

وكانت الزعامات الصهيونية في إسرائيل قد أعلنت أن الهدف من وراء هذه العملية هو أمن مستعمرات الشمال وأمن الجنود الإسرائيليين في الحزام المحتل في جنوب لبنان؛ إلا أن المراقبين رصدوا تصريحات لوزراء الدفاع والخارجية، بل شيمون بيريز نفسه (رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت) تشير للأهداف الثلاثة التي ذكرناها سلفاً. ولا يمكن تجاهل اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية ورغبة رئيس الوزراء (شيمون بيريز) آنذاك في استعراض سطوته وجبروته أمام الناخب الإسرائيلي حتى يواجه الانتقادات التي وجهها له المتشددون داخل إسرائيل بعد الخطوات التي قطعها في سبيل تحقيق هذا قدر يسير من التفاهم مع العرب؛ فمنذ تفاهم يوليه 1993 الذي تم التوصل إليه في أعقاب اجتياح 1993 المعروف بعملية «تصفية الحسابات»، التزم الطرفان اللبناني والصهيوني بعدم التعرض للمدنيين، والتزم الجانب اللبناني بهذا التفاهم، وانصرف عن مهاجمة شمال إسرائيل إلى محاولة تطهير جنوب لبنان من القوات التي احتلته في غزو 1982 المعروف بعملية «تأمين الجليل».

ومع تزايد قوة وجرأة حزب الله في مقاومة القوات المحتلة لجنوب لبنان، فزعت إسرائيل، وشرعت في خرق التفاهم ومهاجمة المدنيين قبل العسكريين في عمليات محدودة إلى أن فَقَدت أعصابها، الأمر الذي ترجمه شيمون بيريز إلى عملية عسكرية يحاول بها أن يسترد بها هيبة جيش إسرائيل الذي تحطَّم على صخرة المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ويستعيد بها الوجه العسكري لحزب العمل؛ بعد أن فَقَد الجنرال السابق رابين باغتياله.

 ومما يُعَد ذا دلالة في وصف سلوك الإسرائيليين بالهلع، هو حجم الذخيرة المُستخدَمة مقارنةً بضآلة القطاع المُستهدَف؛ فرغم صغر حجم القطاع المُستهدَف عسكرياً وهو جنوب لبنان والبقاع الغربي؛ إلا أن طائرات الجيش الإسرائيلي قامت بحوالي 1500 طلعة جوية، وتم إطلاق أكثر من 32 ألف قذيفة؛ أي أن المعدل اليومي لاستخدام القوات الإسرائيلية كان 89 طلعة جوية، و1882 قذيفة مدفعية.

 وقد تدفَّق المهاجرون اللبنانيون على مقار قوات الأمم المتحدة المتواجدة بالجنوب، ومنها مقر الكتيبة الفيجية في بلدة قانا؛ فقامت القوات الإسرائيلية بقذف الموقع الذي كان يضم 800 لبنانياً، إلى جانب قيامها بمجارز أخرى في الوقت نفسه في بلدة النبطية ومجدل زون وسحمر وجبل لبنان، وعاث في اللبنانيين المدنيين العزل تقتيلاً.

 وأسفرت هذه العملية عن مقتل 250 لبنانياً، منهم 110 لبنانيين في قانا وحدها، بالإضافة للعسكريين اللبنانيين والسوريين وعدد من شهداء حزب الله.  كما بلغ عدد الجرحى الإجمالي 368 جريحاً، بينهم 359 مدنياً، وتيتَّم في هذه المجزرة أكثر من 60 طفلاً قاصراً.

 وبعد قصف قانا؛ سرعان ما تحوَّل هذا إلى فضيحة كبرى لإسرائيل أمام العالم؛ فسارعت بالإعلان أن قصف الموقع تم عن طريق الخطأ؛ ولكن الأدلة على كذب القوات الإسرائيلية بدأت تظهر، وتمثَّل الدليل الأول في فيلم فيديو تم تصويره للموقع والمنطقة المحيطة به أثناء القصف، وظهرت فيه لقطة توضح طائرة استطلاع إسرائيلية بدون طيار تُستخدَم في توجيه المدفعية وهي تُحلق فوق الموقع أثناء القصف المدفعي؛ بالإضافة لما أعلنه شهود العيان من العاملين في الأمم المتحدة من أنهم شاهدوا طائرتين مروحيتين بالقرب من الموقع المنكوب.

ومن جانبه علَّق رئيس الوزراء الإسرائيلي (شيمون بيريز) بقوله: "إنها فضيحة أن يكون هناك 800 مدني يقبعون أسفل سقف من الصاج ولا تبلغنا الأمم المتحدة بذلك".  وجاء الرد سريعاً واضحاً، إذ أعلن مسؤلو الأمم المتحدة أنهم أخبروا إسرائيل مراراً بوجود تسعة آلاف لاجئ مدني يحتمون بمواقع تابعة للأمم المتحدة.  كما أعلنوا للعالم أجمع أن إسرائيل وجهت نيرانها للقوات الدولية ولمنشآت الأمم المتحدة 242 مرة في تلك الفترة، وأنهم نبَّهوا القوات الإسـرائيلية إلى اعتدائها على موقـع القوات الدولية في قانا أثناء القصف؛ ولقد أكد تقرير الأمم المتحدة مسؤولية حكومة شيمون بيريز وجيشه عن هذه المذبحة المتعمدة.

ورغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التي مورست أمين عام الأمم المتحدة آنذاك على الدكتور بطرس غالي؛ لإجباره على التستر على مضمون هذا التقرير، فإن دكتور غالي كشف عن جوانب فيه، وهو الأمر الذي قيل: إنه كان من بين أسباب إصرار واشنطن على حرمانه من الاستمرار في موقعه الدولي لفترة ثانية.

وفي عام 1997 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو إسرائيل لدفع تعويضات لضحايا المذبحة، وهو الأمر الذي رفضته تل أبيب.

 وتكتسب هذه المذبحة أهمية خاصة على ضوء أن حكومة ائتلاف العمل الإسرائيلي تتحمل المسؤولية عنها؛ رغم ما روجته عن سعيها الصادق من أجل السلام مع العرب ودعوة شيمون بيريز لفكرة "السوق الشرق أوسطية".

ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أن إسرائيل رغم عملية عناقيد الغضب (ومذبحة قانا)؛ إلا أنها لم تحقق أياً من أغراضها المباشرة أو غير المباشرة؛ فالمقاومة لا تزال مستمرة في جنوب لبنان، وبيريز لم يُنتخَب رئيساً للوزراء.