
في خضمّ الحرب العالمية الثانية، عُقد في مدينة نيويورك داخل فندق بلتمور (Biltmore Hotel) بين 9 و11 / 05 / 1942 مؤتمرٌ صهيوني يُعدّ من أخطر المحطات في تاريخ القضية الفلسطينية.
مثّل هذا المؤتمر نقطة تحوّل حاسمة في مسار الحركة الصهيونية العالمية، حيث انتقلت فيه القيادة الفعلية من أوروبا إلى الولايات المتحدة، لتبدأ مرحلة التحالف الاستراتيجي بين المشروع الصهيوني والقوة الأميركية الصاعدة.
خلفية المؤتمر
- جاء انعقاد مؤتمر بلتمور بعد أن تراجعت قدرة الحركة الصهيونية الأوروبية بسبب الحرب، ووجد زعماؤها أن واشنطن هي البديل الطبيعي لبريطانيا كراعٍ جديد للمشروع الصهيوني في فلسطين.
- شارك في المؤتمر أكثر من 600 مندوب يهودي من الولايات المتحدة ودول الغرب، يتقدمهم ديفيد بن غوريون، أحد أبرز زعماء الوكالة اليهودية.
- انعقد المؤتمر تحت شعار “إنقاذ الشعب اليهودي”، لكنه في الحقيقة كان خطة سياسية محكمة لإحكام السيطرة على فلسطين بعد الحرب، عبر كسب الدعم الأميركي الكامل.
مقررات مؤتمر بلتمور
أصدر المؤتمر ما عُرف بـ "برنامج بلتمور" (Biltmore Program)، الذي شكّل تحولًا جذريًا في الخطاب الصهيوني:
- المطالبة الصريحة بإقامة دولة يهودية في فلسطين بدلًا من الاكتفاء بـ"وطن قومي" كما ورد في وعد بلفور.
- رفض أي وصاية دولية أو بريطانية على المشروع الصهيوني.
- الدعوة إلى فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية الواسعة دون قيود.
- تأكيد أن الشعب اليهودي هو صاحب “الحق التاريخي” في أرض فلسطين.
- تعزيز العلاقات السياسية والمالية مع الولايات المتحدة لضمان دعمها الكامل بعد الحرب.
كانت هذه المقررات إعلانًا واضحًا عن التحوّل الأميركي في تبنّي المشروع الصهيوني، وتراجع الدور البريطاني التاريخي الذي بدأ بوعد بلفور عام 1917.
نتائج المؤتمر وأثره التاريخي
- نقل مركز الثقل الصهيوني من لندن إلى واشنطن.
- وضع الأسس الأولى للتحالف الأميركي–الإسرائيلي الذي ما زال قائمًا حتى اليوم.
- أعطى الصهيونية غطاءً أميركيًا واسعًا في الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
- مهّد الطريق لإعلان قيام "إسرائيل" في 14 / 05 / 1948.
ومنذ مؤتمر بلتمور، بدأت الولايات المتحدة تمارس نفوذها الدولي لحماية المشروع الصهيوني، سياسيًا في مجلس الأمن، وماليًا عبر الدعم الاقتصادي الهائل، وعسكريًا عبر صفقات السلاح المستمرة حتى اليوم.
يُعتبر مؤتمر بلتمور حلقة مفصلية في مسار نكبة فلسطين، حيث انتقلت الصهيونية من الاعتماد على بريطانيا كقوة استعمارية إلى الاحتماء بـ الولايات المتحدة كقوة إمبريالية عالمية.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت فلسطين هدفًا استراتيجيًا مشتركًا بين المشروع الصهيوني والأطماع الغربية في الشرق الأوسط، فيما بقي الشعب الفلسطيني وحيدًا في مواجهة الاستعمار المزدوج: الصهيوني والأميركي. وجعل فلسطين قاعدة متقدّمة للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
تجاهل المؤتمر كليًا وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه، وتحدّث عن أرضٍ خالية تنتظر “العودة اليهودية”، في واحدة من أوضح صور الإنكار التاريخي والسياسي لوجود الفلسطينيين على أرضهم.
ومنذ ذلك الحين، أصبح الدعم الأميركي لإسرائيل ثابتًا في السياسة الخارجية الأميركية، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
شاركنا برأيك