تعتبر معركة حيفا من أهم المعارك التي خاضها الشعب الفلسطيني ببسالة في وجه القوى التي تآمرت عليه . كانت منطقة حيفا من أخطر المناطق الفلسطينية إذ كانت المستعمرات اليهودية المحصنة والمسلحة تحيط بها وتهدد طرق مواصلاتها ، هذا عدا عن خطورة الوضع داخل المدينة نفسها ، إذ أن معظم الأحياء اليهودية المواجهة للأحياء العربية كانت مقامة على سفح جبل الكرمل المشرف على جميع أحياء حيفا . كان عدد اليهود في حيفا عند نهاية الانتداب أكثر من نصف سكان المدينة بقليل ، وكان مجموع سكان المدينة يزيد على ( ١٤٠ ) ألف نسمة . وكانت سلطات الانتداب البريطاني قد منحت اليهود معظم أراضي تلك المنطقة دون مقابل وبأثمان رمزية ، وساعدتهم على تشييدها لتكون حصونا منيعة عندما يحين وقت المعركة التي خططوا لها . ومع ذلك كله فإن هذا الوضع المتفوق لصالح اليهود لم يحل دون قيام المجاهدين البواسل بسلسلة هجمات موفقة لاحتلال تلك الأحياء اليهودية لولا تدخل الجيش البريطاني المستمر لحماية اليهود والوقوف بجانبهم في وجه الهجمات العربية الباسلة وكانت حامية حيفا قد تألفت بإشراف لجنتها القومية التي تعاقدت مع ضابطين من الجيش العربي الرئيس محمد حمد والملازم أول محمد الحنيطي لشؤون التدريب والقيادة . ويضاف إلى هذه المجموعة مجاهدون مستقلون وآخرون من قبل الهيئة العربية العليا بقيادة « أبو إبراهيم الصغير ) كان واضحا منذ إعلان التقسيم تصميم اليهود على الاستئثار بحيفا ، وهذا ما جعل المدينة تخوض قتالا داميا طيلة الأشهر الخمسة التي سبقت سقوطها
ولم يكن عدد المجاهدين فيها يزيد في أي يوم عن الأربعمئة مقاتل ، مع أن مدينة صناعية مهمة كحيفا ، مدينة كبري بمرفئها وموقعها ومواصلاتها كانت تستحق الأولوية من اهتمام القيادة العسكرية ، وخاصة أن سكانها كانوا خليطا من العرب واليهود ولم يكن الحصول على السلاح أمرا سهلا ، ولا وجه للمقارنة بين أسلحة اليهود التي كانت تمتلئ بها سراديب البنايات المرتفعة ، وبين أسلحة العرب التي كانت تعاني من نقص في الكمية ومن فساد في النوعية وسوء في التوزيع ومن أجل الحصول على السلاح اضطر القادة المستولون إلى الذهاب بأنفسهم مرارا للإشراف على نقله . وقد استشهد القائد الأردني محمد الحنيطي ومساعده سرور برهم عندما هاجم اليهود شاحنتهما المحملة بالسلاح ، وهي في طريقها من عكا إلى حيفا " ، حيث وقعت المعركة بين عكا وحيفا في الساعة الثالثة من بعد ظهر الأربعاء في ١٩٤٨ / ۳ / ۱۷ ، وفجعت حيفا خاصة وفلسطين عامة بهذه الكارثة ، وتم نقل جثث الشهداء إلى حيفا وكانت قبل هذه المعركة قد وقعت في حيفا ومنطقتها معارك كثيرة ، حيث بادر اليهود مهاجمة القرى والضواحي المحيطة بحيفا قبل أن تستعد وتتسلح . ففي ١٩٤٨ / ۱۲ / ۱۳ هاجموا قرية الطيرة ، وفي ١٩٤٧ / ۱۲ / ۱۹ هاجموا قرية شفاعمرو ، وفي ١٩٤٧ / ۱۲ / ۳۰ قامت منظمة الأرغون بهجوم بالقنابل على العمال العرب في مصفاة البترول قرب حيفا . وعلى الرغم من التفاوت الكبير في السلاح والمسلحين فقد قاتل أبطال حيفا مدة خمسة أشهر أظهروا فيها بطولات خارقة ، ودامت آخر معركة بينهم وبين اليهود ( ۷۰ ) ساعة متواصلة في اليوم الحادي والعشرين حتى الثالث والعشرين من نيسان ١٩٤٨ ، استخدم فيها اليهود مدافع المورتر ومدافع الميدان وقاذفات الألغام والمدافع الصاروخية . وكان للإنجليز دور رئيسي في هذه المعركة حيث صدوا جميع النجدات التي جاءت للمدينة من القرى العربية المجاورة ، وحاولوا يوم ۲۲ نيسان في اجتماع حضره ممثلون عن العرب واليهود فرض شروط استسلام على العرب ، فرفضها العرب لأنها كانت شروطا مذلة تقضي بتسليم جميع أسلحة العرب لليهود وتسليم المقاتلين غير الفلسطينيين ، وبالتالي تسليم المدينة لليهود بقيادة الهاغانا وفي يوم ۲۳ نيسان أي قبل انتهاء الانتداب بثلاثة أسابيع انسحب الإنجليز من المدينة وتجمعوا في منطقة المرفأ المحاطة بالأسلاك الشائكة ، وتم ذلك بشكل مفاجئ للعرب ساعد اليهود على احتلال المدينة ، لا سيما وأنه لم تصل للمجاهدين العرب في أثناء المعارك الأخيرة أية نجدة من جيش الإنقاذ أو أية إمدادات بالذخيرة والسلاح هكذا دخل اليهود الأحياء العربية وأمعنوا في العرب تقتيلا ونهبوا جميع ما في المنازل والمتاجر ، ونسفوا عددا من المنازل ، وسقطت حيفا وغادرها سكانها في ظروف مأساوية عن طريق البحر ، ووصف اليهود انسحاب الإنجليز قبل انتهاء الانتداب بثلاثة أسابيع بأنه ( ( عمل رائع ) يقول الشيخ محمد نمر الخطيب عن الفاجعة الكبرى بسقوط حيفا لقد قدر لنا أن نعيش ونسمع كيف سقطت درة الدنيا وعروسة العالم ، وثغر فلسطين وأمل الشرق ، حيفا الجميلة . لقد كان أهل حيفا ، كأهل فلسطين يرتقبون ذلك اليوم المشهود والأمل المعهود ، ويعدون الثواني ، ويستبطئون الزمن ، ليشهدوا ذلك اليوم الأبيض ، يوم الخامس عشر من أيار من عام . ١٩٤٨ وحل ذلك اليوم ، والذي بعده ، ليشاهدوا بأم أعينهم مئات القتلى في شوارع حيفا ، لا يجدون من يودعهم الوداع الأخير ، ولا من يضعهم في القبور ، جاءت الأيام البيض ، ولكن كانت سوداء حالكة ، إذ كانت البنات الأبكار ، ينادين بالويل والثبور ، ولا يجدن معتصما سوى ذلك الميناء ، يجتمعن فيه ليركين البحر من حيفا إلى عكا ، أو إلى أقرب ميناء من موانئ لبنان .
لك الله يا حيفا ! لقد أضاعوك وكأنك لم تكوني منبت الأبطال ، ولا غيل الآساد والأشبال كأن لم تكوني مطلقة أول رصاصة غرفتها فلسطين في سبيل الحرية والاستقلال ، كأن لم تكون مدرسة عز الدين ، وبلد الغر الميامين ، لك الله أيتها الذبيحة الشهيدة » . أما الرواية الإسرائيلية الرسمية لحرب مدينة حيفا فقد ورد فيها ما يلي كانت الثانية في القائمة حيفا ، الميناء الكبير ، والمركز الصناعي المهم في البلد . كان تفوق القوة اليهودية على القوة العربية في هذه المدينة واضحا ومعروفا . وكان البريطانيون هم الذين حالوا دون استيلاء اليهود على المدينة وقد حسمت هزيمة قافلة النجدة المرسلة إلى عرب حيفا في آذار ( مارس ) مصير المدينة . لقد أحضر القائد الجديد أمين عز الدين معه عصابة مسلحة كبيرة من بيروت .
وفي ١٩٤٨ / ٤ / ۲۱ أخطر قائد حيفا البريطاني ، اليهود والعرب بأن قواته سوف تترك المدينة وأنها ستتجمع في الكرمل الغربي وفي الميناء وبدأت الهاغانا المعركة بإرسال فصيلة من ( ۳۰ ) شخصا لاحتلال مقر لجنة الأحياء الشرقية ( بيت النجادة ) في شارع صلاح الدين الذي كان مشرفا على جسر روشميا ، والذي كان من شأنه أن يعرقل حركة المواصلات من حيفا إلى الجليل والمروج ، ووصل الرجال إلى المكان في مصفحات واحتلوه في معركة دارت وجها لوجه ، ولكنهم تعرضوا لنيران قوية وعزلوا عن القوات اليهودية لأكثر من وفي منتصف الليل شنت سرية هجوما على حي الحليصة العربي في اتجاه المبنى المحاصر وتم احتلال الحي بأسره . وبعد منتصف ليل ١٩٤٨ / ٤ / ۲۳ بدأ هجوم من ثلاثة رؤوس على حيفا العربية :
الأول نحو الحليصة ، والثاني في اتجاه شارع البرج والوسط التجاري ، والثالث انطلق من الوسط التجاري الجديد في اتجاه شارع ستانتون ، ومهد للهجوم بقصف مركز على الأحياء العربية ، وبعد ذلك اندفع أفراد سرية الميناء التابعة للبالماخ في منطقة الوسط التجاري القديم ، وانحدر سرايا كرملي الخمس من جبل الكرمل . ودارت في غرب المدينة معركة عنيفة للاستيلاء على مبنى مكاتب إدارة سكة الحديد الذي تمركز فيه القناصة ولم يستسلموا إلا بعد إضرام النار في المبنى ، وعند الظهر التقت القوة المنحدرة من الكرمل بالقوة الصاعدة من المدينة وانشطرت المدينة إلى قسمين . ودب الذعر في أفندة السكان العرب ، وخرج قائد المدينة أمين عز الدين في ساعات الصباح في قارب متجها إلى عكا بحجة أنه ذاهب لإحضار نجدة من الرجال والأسلحة ولم يرجع ، وانهارت القيادة العربية كليا . وأرسلت قيادة الهاغانا سيارات تحمل مكبرات الصوت تدعو العرب إلى إلقاء السلاح وفي صباح ذلك اليوم انتشرت شائعة بأن الجيش البريطاني مستعد لأن ينقل إلى خارج مدينة حيفا كل شخص يصل إلى منطقة الميناء ، وبدأ اندفاع مذعور في اتجاه بوابات الميناء - روي عضو اللجنة القومية في حيفا نمر الخطيب في مذكراته - وداس الرجل أخاه ، والمرأة أولادها ، وامتلأت القوارب في الميناء بسرعة بحمولتها البشرية » . وفي الصباح نفسه اتصل الوجهاء العرب باليهود بواسطة الجنرال ستوكويل وطلبوا السماح لهم بالخروج من المدينة فسمح لهم شرط ألا يخرجوا سلاحهم وسقط في عملية احتلال حيفا ۱۸ من رجال الهاغانا بينهم نائب قائد كتيبة قوة الميدان . وفي مساء عيد الفصح ١٩٤٨ / ٤ / ۲۳ أعلن قائد لواء « كرملي ، قيام حكم عبري مستقل في مدينة حيفا ) . قرى باسلة كان على مقربة من مدينة حيفا ثلاث قرى باسلة هي ( جبع ، إجزم ، عين غزال » ، وقد صمدت هذه القرى في وجه اليهود فترة طويلة ، ودافع عنها أبناؤها المجاهدون دفاع الأبطال حتى نفذت ذخيرتهم بل حتى آخر رصاصة بقيت معهم . يقول الشيخ محمد نمر الخطيب عن هذه القرى وأبنائها الأبطال
( هذه القرى الباسلة )جبع ، اجزم ، عين غزال التي فعلت ما عجزت عنه الدول السبع مجتمعة ، فقد قاومت اليهود شهرين متتاليين ، على رغم أن اليهود قد أحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم ، وكانت أغلبية مدن فلسطين بعد حيفا ساقطة بيد اليهود على التوالي وكان اليهود يضربون هذه القرى الثلاث من الجبال والبر والبحر ، واستمروا في قتالهم طيلة هذه المدة إلى آخر رصاصة معهم ، وقد استغاثوا مرارا وتكرارا بالجيوش العربية ، ولكن لم يلبهم أحد ، وكانت النتيجة أن هام الناس على وجوههم طعمة للوحوش ، وبقي من بقي منهم طعمة للذبح والنار وعلى مقربة من هذه القرى الثلاث كانت قرية الطيرة الباسلة التي صمدت في وجه القوات اليهودية المحيطة بها ، واشتبكت معهم .
من كتاب نكبة فلسطين عام 1948-1947: مؤامرات وتضحيات / حسني أدهم جرار
شاركنا برأيك